الدوافع الخفية وراء السرية الصينية في تطوير الحواسيب العملاقة
يشهد عالم الحوسبة تطورات متسارعة، إذ تسعى الدول إلى تطوير (حواسيب عملاقة) Supercomputers، قادرة على معالجة كميات ضخمة من البيانات بسرعة فائقة، مما يساعد في حل المشكلات المعقدة وتسريع التقدم العلمي.
وفي هذا المجال، تؤدي الصين دورًا محوريًا، وتُعدّ المنافس الأول للولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك لجأت الصين إلى سياسة السرية في تطوير أجهزتها، إذ توقفت تمامًا عن المشاركة في منتدى دولي بارز للحوسبة الفائقة.
وقد أثار هذا التوجه الكثير من التساؤلات حول التقدم الذي حققته الصين في مجال الحواسيب العملاقة والدوافع الخفية وراء هذه السياسة، وكيف ستؤثر سياسة السرية التي اتبعتها في التنافس العالمي في العديد من المجالات وأهمها الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
الصين تنتهج السرية في تطوير الحواسيب العملاقة:
أصبحت المنافسة التقنية بين الولايات المتحدة والصين أكثر حدة خلال السنوات الأخيرة، إذ بدأت الدولتان باتخاذ إجراءات تهدف إلى تعزيز موقعهما الإستراتيجي، ومن بين هذه الإجراءات انسحاب الصين في عام 2023 من المشاركة في المنتدى الدولي للحوسبة الفائقة (International Supercomputing Conference)، الذي ينتج عنه قائمة (TOP500)، التي تُصنف أسرع 500 حاسوب عملاق عالميًا.
ويشير انسحاب الصين من مشاركة بياناتها عن الحواسيب العملاقة إلى نهاية حقبة من التعاون العلمي المفتوح، ويقول العلماء إن هذا الانسحاب يعوق التقدم في مجالات حيوية مثل الذكاء الاصطناعي.
ولكن أهم من ذلك، يجعل هذا الانسحاب من الصعب على الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، الإجابة عن سؤال يُعدّ ضروريًا للأمن القومي وهو: من يمتلك أسرع حاسوب عملاق في العالم الولايات المتحدة أم الصين؟
وقد أظهرت قائمة (TOP500) التي صدرت في شهر يونيو الماضي، أن أسرع 3 حواسيب عملاقة في العالم موجودة في الولايات المتحدة، ومع ذلك فالواقع قد يكون مختلفًا، إذ يؤكد جاك دونجارا، البروفيسور في جامعة تينيسي الأمريكية، وأحد علماء الحاسوب المشاركين في تأسيس (Top500)، أن الصين تمتلك حواسيب عملاقة تتفوق على باقي دول العالم.
وقد أعرب دونجارا خلال مشاركته في المؤتمر الدولي لتطورات البلوك تشين في عام 2023، عن أسفه لانسحاب الصين من مشاركة بيانات أجهزتها العملاقة مع قائمة (TOP500)، وأشار إلى أن الصين في عام 2022، كانت تمتلك 162 جهازًا في القائمة، متقدمة بـ 37 جهازًا على الولايات المتحدة التي احتلت المركز الثاني بـ 125 جهازًا.
وقال دونجارا إن الشائعات تشير إلى أن الصين ربما تمتلك حاليًا جهازين أو ثلاثة أجهزة إكساسكيل (Exascale) – نسبة إلى نظام عمل الحواسيب العملاقة – مما يعزز مكانتها الرائدة في مجال الحوسبة الفائقة.
ويعني (إكساسكيل) Exascale، أن الحواسيب يمكنها تنفيذ إكسا فلوب – أي كوينتيليون (الرقم واحد متبوع بـ 18 صفر) – عملية فاصلة عائمة في الثانية، ويعني ذلك أن الحاسوب قادر على إجراء (مليار مليار عملية حسابية في الثانية الواحدة)، وهذا يجعل الحواسيب العملاقة الجديدة أسرع ألف مرة من أول أنظمة بيتافلوب التي سبقتها منذ أكثر من عقد.
لذلك يمثل (Exascale) قمة الأداء في الحوسبة العملاقة حاليًا، وكلما ارتفع الرقم، زادت قدرة الحاسوب على حل المشكلات المعقدة بسرعة، لذلك تساهم الحواسيب العملاقة ذات قدرة الإكساسكيل في تحقيق تقدم كبير في مجالات علمية وتكنولوجية مختلفة.
الحرب الباردة التقنية:
تصاعدت حدة التنافس التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين خلال السنوات الماضية، وقد دفع ذلك الولايات المتحدة إلى فرض قيود على تصدير الرقاقات المتقدمة إلى الصين، بما يشمل شرائح معالجة الرسومات المتطورة من إنفيديا اللازمة لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، وذلك بهدف الحفاظ على تفوقها في مجال أشباه الموصلات.
كما فرضت الولايات المتحدة حظرًا على تصدير آلات التصنيع المتقدمة من شركة ASML الهولندية إلى الصين، وهي الآلات التي تُعدّ ضرورية لإنتاج أحدث الرقاقات الإلكترونية، وقد أدت هذه القيود إلى تباطؤ تقدم الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، ولكنها دفعتها للاستثمار بكثافة في تطوير صناعة رقاقات محلية.
إذ تمكنت شركة هواوي في نهاية العام الماضي من إطلاق هاتفها الذكي (Mate 60 Pro) مزودًا بشريحة متقدمة مصنعة بدقة تبلغ 7 نانومتر تدعم شبكات الجيل الخامس 5G، وهي تقنية تهدف العقوبات الأمريكية إلى منع شركة هواوي من الوصول إليها.
كما أشارت الكثير من التقارير إلى أن شركة (SMIC) الصينية تعمل على إنتاج رقاقات مصنعة بدقة تبلغ 5 نانومتر، وتشير هذه التطورات إلى أن الصين تسعى جاهدة إلى تطوير قدراتها في تصنيع الرقاقات الإلكترونية حتى في ظل العقوبات الأمريكية.
وتركز الصين جهودها حاليًا في تطوير رقاقات بمعمارية (RISC-V)، التي تُعدّ بديلًا واعدًا لمعماريات x86، و ARM، ولكنها لا تزال في مراحل مبكرة من التطور، ومع ذلك تعمل مئات الشركات الصينية على تطوير معالجات قائمة عليها للأجهزة المحمولة والحواسيب والخوادم. وتُعدّ مبادرة شركة (علي بابا) في طرح تصميمات لمعالج (RISC-V) مفتوحة المصدر للخوادم خطوة مهمة نحو بناء منظومة قوية لهذه المعمارية في الصين.
صعود الصين في مجال الحواسيب العملاقة:
يعود تاريخ تطوير الحواسيب العملاقة إلى ستينيات القرن الماضي، عندما صمم (سيمور كراي) أول حاسوب عملاق لشركة (Control Data Corp)، وبعدها بدأت الوكالات الحكومية الأمريكية بتطوير حواسيب قادرة على معالجة كميات ضخمة من البيانات في وقت واحد لحل المشكلات بطريقة لا تستطيع الحواسيب العادية القيام بها.
وكانت هذه الأجهزة في البداية تستخدم في التطبيقات المتعلقة بالأمن القومي وتصميم الأسلحة النووية والتشفير، ولكن في الوقت الحاضر تستخدم في العديد من القطاعات، مثل: الصحة والطاقة، والعلوم الذرية والصناعات الثقيلة والتصميم الكيميائي والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وأبحاث السرطان وعلاجه وتقييم مخاطر الزلازل وغيرها الكثير.
وقد ظهرت قائمة (TOP500) – التي تُصنف أقوى 500 حاسوب عملاق في العالم – في عام 1993، عندما قام دونجارا، الأستاذ في جامعة تينيسي، وزملاؤه في (ندوة مانهايم الثامنة للحواسيب العملاقة) التي أُقيمت في ألمانيا، بتوزيع مسألة رياضية على الحواسيب العملاقة وقتها، ثم صنفوا الأجهزة حسب الوقت الذي استغرقته لحلها، وكانت المشاركة في القائمة مفتوحة دائمًا.
وقد تصدرت الحواسيب العملاقة الأمريكية هذه القائمة – التي تصدر مرتين في السنة – لأكثر من عقدين من الزمان، ولكن بحلول نوفمبر 2017، بدأت الصين في تحقيق تقدم ملحوظ، متجاوزة الولايات المتحدة في عدد الأجهزة المدرجة، إذ كانت الصين تمتلك 202 حاسوب عملاق في القائمة مقارنة بعدد يبلغ 143 حاسوب للولايات المتحدة.
وفي عام 2019، وضعت وزارة التجارة الأمريكية 5 شركات حوسبة عملاقة صينية على القائمة السوداء، مدعية استخدامها هذه الأجهزة لأغراض عسكرية ونووية، وحظرت العقوبات على شركات التقنية الأمريكية بيع المكونات لهذه الشركات دون ترخيص.
وأكد دونجارا أن فرض العقوبات الأمريكية على الشركات الصينية المتخصصة في الحوسبة العملاقة شكل نقطة تحول فارقة، أدت إلى تراجع كبير في مشاركة الشركات الصينية في قائمة (TOP500). وعندما سأل زملاءه الصينيين عن السبب، قالوا إنهم غير مسموح لهم بتقديم المعلومات. وعلاوة على ذلك، قلل العلماء الصينيون من كمية البيانات التي يشاركونها في المنتديات العلمية الأخرى.
والآن وفقًا لقائمة (Top500)، يوجد أسرع حاسوب عملاق في العالم في مختبر أوك ريدج الوطني، التابع لوزارة الطاقة في ولاية تينيسي الأمريكية، ويحمل هذا الحاسوب اسم (Frontier).
وأكد دونجارا، الذي يعمل أيضًا في مختبر أوك ريدج، أن بناء حاسوب (Frontier) وتشغيله، تطلب استثمارات ضخمة، إذ يَشغل الحاسوب مساحة تعادل ملعبين للتنس، وبالإضافة إلى التكلفة الباهظة لبنائه التي تبلغ 600 مليون دولار، فإن هذا الحاسوب يستهلك كمية ضخمة من الطاقة الكهربائية تكلف نحو 20 مليون دولار سنويًا، بسبب استخدامه عشرات الآلاف من الشرائح الحاسوبية المتخصصة، مما يسلط الضوء على التكاليف المرتفعة المرتبطة بتطوير الحواسيب العملاقة.
ومع ذلك لا يعتقد دونجارا أن (Frontier) هو في الواقع أسرع حاسوب عملاق في العالم، ويشير إلى وجود أدلة علمية تشير إلى تفوق بعض الأجهزة الصينية، مثل: النماذج الأولية لحاسوب (Tianhe-3) – الذي يحمل اسم مجرة درب التبانة باللغة الصينية – بالإضافة إلى نموذج آخر في سلسلة (Sunway) من الحواسيب العملاقة الصينية.
وقال دونجارا إن الوثائق الصينية تصف المعالجات الموجودة في الأجهزة، والتطبيقات التي تعمل عليها والنتائج التي تحصل عليها، مما يعطي تقديرًا جيدًا لمدى سرعة الحواسيب العملاقة.
وفي العام الماضي، وصفت ورقة علمية قدمت لجائزة (جوردون بيل)، التي تُعدّ بمنزلة جوائز الأوسكار في الحواسيب العملاقة، حاسوب (Sunway) الصيني بأنه يحتوي على 39 مليون نواة، أو أجزاء من الرقاقات التي تقوم بالمعالجة، وهذا أربعة أضعاف عدد النوى التي يحتوي عليها حاسوب (Frontier) الأمريكي.
بالإضافة إلى ذلك، أعلن المركز الوطني للحوسبة الفائقة في شهر ديسمبر الماضي خلال مؤتمر تطبيقات الحوسبة الفائقة في (Guangzhou) حاسوبًا جديدًا يُسمى (Tianhe Xingyi)، وقال إنه يقدم ضعف أداء حاسوب (Tianhe-2). ويسعى دونجارا إلى التأكد من هذه الادعاءات من خلال حضور المؤتمرات العلمية والتحدث مباشرة مع العلماء الصينيين.
الحواسيب العملاقة هي حل الصين لبناء نماذج الذكاء الاصطناعي:
شهدت ندوة خبراء تطوير قوة الحوسبة الصينية لعام 2024، التي عُقدت في الصين نهاية شهر يوليو الماضي، اقتراح كبار علماء الحاسوب الصينيين الاعتماد على الحواسيب العملاقة لتطوير النماذج اللغوية الكبيرة، وذلك في مواجهة القيود الأمريكية المفروضة على استيراد شرائح معالجة الرسومات اللازمة لذلك.
وأوضح الباحثون أن الحواسيب العملاقة الصينية، التي تستخدم رقاقات مصممة محليًا، قادرة على معالجة كميات ضخمة من البيانات بسرعة فائقة، مما يجعلها أداة قوية لبناء نماذج لغوية ضخمة دون الحاجة إلى كميات كبيرة من وحدات معالجة الرسومات (GPUs) التي تشكل عنق الزجاجة في تطوير هذه النماذج.
ومع ذلك، حذر الخبراء من أن هذا التحول يتطلب التغلب على تحديات تقنية كبيرة، مثل استهلاك الطاقة العالي ومشاكل الموثوقية. ويرى المراقبون أن هذا التحول الإستراتيجي يعكس تصميم الصين على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال التكنولوجيا الحيوية، خاصة في ظل التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة.
ما الدوافع الخفية وراء السرية الصينية في تطوير الحواسيب العملاقة؟
يُعدّ قرار الصين تبني سياسة السرية في تطوير الحواسيب الخارقة قرارًا معقد الدوافع، ويتأثر بمجموعة من العوامل المتداخلة، أبرزها:
- الحرب الباردة الرقمية: يشهد العالم حربًا باردة جديدة تدور حول التكنولوجيا، والصين ترى في الحواسيب العملاقة أداة أساسية لتعزيز قوتها العسكرية واقتصادها الرقمي.
- حماية الأمن القومي: تُعدّ الحواسيب العملاقة أداة أساسية في مجالات مثل التشفير، وتحليل البيانات الاستخباراتية، وتطوير الأسلحة، لذا فإن تطويرها بشكل مستقل يضمن أمن المعلومات والحفاظ على التفوق التكنولوجي.
- الاستقلال التكنولوجي: تسعى الصين إلى تقليل اعتمادها على التكنولوجيا الغربية، خاصة في المجالات الحساسة مثل الحواسيب العملاقة وذلك لتجنب أي شكل من أشكال الحصار التكنولوجي.
- الزعامة العالمية: تطمح الصين إلى أن تكون قوة عظمى في مجال التكنولوجيا، والحواسيب العملاقة من أهم أدوات تحقيق هذا الهدف، إذ تساهم في تطوير الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وغيرها من التقنيات المتقدمة.
باختصار، يمكن القول إن دوافع الصين وراء هذه السياسة المعقدة هي مزيج من الرغبة في الحفاظ على التفوق التكنولوجي، وحماية الأمن القومي، وتعزيز مكانتها الاقتصادية على الساحة الدولية.
ولكن من المهم أيضًا أن نلاحظ أن السرية ليست بالضرورة سلبية، ففي بعض الحالات قد تكون ضرورية لحماية المصالح الوطنية وتجنب تسريب التكنولوجيا إلى المنافسين. ومع ذلك، فإن الإفراط في السرية قد يعوق التعاون الدولي في مجال البحث العلمي والتطوير، ويؤدي إلى إضاعة الفرص لتحقيق تقدم أسرع.