احتكار جوجل للبحث عبر الإنترنت.. هل حان الوقت للتغيير؟
شهد القطاع التقني حدثًا تاريخيًا يوم الاثنين الماضي، وهو صدور حكم قضائي يتهم شركة جوجل باحتكار سوق البحث عبر الإنترنت، فبعد سنوات من الهيمنة المطلقة، تجد جوجل نفسها أمام تحديات قانونية قد تجبرها على تغيير نموذج أعمالها.
وقال القاضي أميت ميهتا من محكمة مقاطعة كولومبيا في حكمه، إن صفقات جوجل الحصرية مع شركات التقنية الكبرى هي السبب الرئيسي في هذا الاحتكار. وأشار الحكم إلى أن فقدان جوجل اتفاقيتها مع آبل قد يكبدها خسائر فادحة تصل إلى 65% من إيراداتها.
وتكمن أهمية هذا الحكم في أنه سيفتح الباب لاحقًا أمام تغييرات جوهرية في سوق البحث، لأنه قد يُلزم جوجل بإنهاء صفقاتها الحصرية مع كبرى الشركات التقنية وتعديل سياساتها، ولكن هل هذا التغيير سيؤدي إلى زيادة المنافسة وفتح المجال أمام شركات أخرى لدخول السوق؟
أولًا؛ حيثيات القضية والحكم:
بدأت هذه القضية في عام 2020، عندما رفعت وزارة العدل وبعض الولايات الأمريكية دعوى قضائية ضد جوجل، متهمة إياها بالقيام بممارسات احتكارية للحفاظ على هيمنتها في سوق محركات البحث عبر الإنترنت، وذلك من خلال دفع مليارات الدولارات سنويًا لشركات أخرى، مثل: آبل وسامسونج، لجعل محرك بحثها هو الخيار الافتراضي الوحيد في هواتف تلك الشركات.
وعُرفت القضية باسم (الولايات المتحدة ضد جوجل)، وقالت وزارة العدل الأمريكية في اتهامها للشركة، إن محرك البحث جوجل يسيطر على ما يقرب من 90% من عمليات البحث عبر الويب، وهي نسبة اعترضت عليها الشركة.
وكشفت الحكومة خلال المحاكمة أن شركة جوجل دفعت مبالغ طائلة سنويًا، تقدر بمليارات الدولارات سنويًا، مقابل اتفاقيات حصرية مع شركات تقنية أخرى، ففي عام 2021 وحده، بلغ إجمالي هذه المبالغ 26.3 مليار دولار، وذلك لضمان أن يكون محركها للبحث هو المحرك الافتراضي في الأجهزة المحمولة ومتصفحات الإنترنت.
وتشير التقارير إلى أن شركة آبل كانت أكبر المستفيدين من هذه الاتفاقيات، حيث حصلت على نحو 18 مليار دولار في ذلك العام.
وقد كشفت المحاكمة التي استمرت عشرة أسابيع عن مخاوف عميقة من هيمنة جوجل على سوق البحث، وعبر ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، خلال شهادته عن قلقه من أن هذه الهيمنة قد أدت إلى إنشاء منظومة مغلقة من خدمات جوجل يطلق عليها (شبكة جوجل)، وأن علاقتها مع آبل تُعدّ احتكارية وتعزز هذا الوضع. وأضاف ناديلا إذا استمرت جوجل دون رادع، فمن المحتمل أن تصبح مهيمنة في سباق تطوير الذكاء الاصطناعي.
ومن جهته، رد ساندر بيتشاي، الرئيس التنفيذي لجوجل، في شهادته على هذه الاتهامات قائلًا: “إن جوجل قدمت أفضل خدمة للمستهلكين”. وقال محامو الشركة، إن المستخدمين يختارون البحث عبر محرك جوجل لأنهم يعدّونه الأفضل، والشركة استمرت في الاستثمار لتحسينه على مدار السنوات الماضية.
وقال جون شمدتلين، المحامي الرئيسي لجوجل، خلال المرافعات الختامية التي جرت في مايو الماضي: “إن جوجل تنجح لأنها الأفضل، كما أن استثمارتها الضخمة في الذكاء الاصطناعي ستغيِّر بنحو كبير كيفية تفاعل الناس مع مواقع الويب”.
ثانيًا، احتكار جوجل لخدمات البحث:
حكمت المحكمة في نهاية الأمر لصالح الحكومة الأمريكية، مؤكدة أن جوجل ارتكبت مخالفات لممارسات المنافسة العادلة، وقال القاضي ميهتا إن اتفاقيات جوجل الحصرية مع شركات الأجهزة تمنع المنافسين من الوصول إلى السوق، مما يضر بالمستهلكين ويحد من خياراتهم.
والمثال الواضح على هذه الممارسات هو اتفاقها مع شركة آبل حيث استغلت جوجل شرطًا في عقدها مع آبل للحفاظ على حصتها في الإيرادات، مما أجبر آبل على جعل جوجل محرك البحث الافتراضي الوحيد في متصفح سفاري، على الرغم من رغبة آبل في منح المستخدمين خيارات أخرى.
واتهمت الحكومة الأمريكية جوجل أيضًا، بالحفاظ على احتكار الإعلانات التي تظهر ضمن نتائج البحث. وقال محامو الحكومة، إن جوجل رفعت أسعار الإعلانات فوق المعدلات التي يجب أن تكون موجودة في سوق حرة، مما يُعدّ دليلًا على قوة الشركة.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فجوجل تستعين بفريق متخصص في الاقتصاد السلوكي لدراسة سلوك المستخدمين وتحديد أفضل الطرق للتأثير في قراراتهم بشأن محركات البحث. هذا يعني أن جوجل لا تعتمد فقط على القوة المالية، بل تستخدم أيضًا أساليب علمية للتلاعب بسلوك المستخدمين والحفاظ على هيمنتها.
ومن المتوقع أن تستمر تداعيات هذه القضية لمدة طويلة، لأن جوجل أعلنت عزمها استئناف الحكم، مما قد يؤخر تنفيذه لسنوات.
بالإضافة إلى ذلك، لم تُحدد التعويضات التي ستدفعها الشركة حتى الآن، وتتطلب عملية قانونية مستقلة لتحديدها. كما أن تأثير هذا الحكم في السوق والمستخدمين يعتمد على العديد من العوامل؛ منها رد فعل المشرعين والمنظمين، والتغييرات التي ستقوم بها جوجل. ومن ثم فإن أي تغييرات جذرية في عالم الإنترنت لن تحدث بين عشية وضحاها.
ثالثًا، لماذا تُعدّ هذه القضية مهمة؟
يمثل هذا الحكم القضائي الصادر بحق شركة جوجل نقطة تحول تاريخية في معركة مكافحة الاحتكار، حيث حققت الحكومة الأمريكية أول انتصار لها في مجال مكافحة الاحتكار على شركة عملاقة في مجال التكنولوجيا منذ 25 عامًا، بعد الدعوى القضائية الناجحة بحق مايكروسوفت في عام 1998، وهي سابقة استشهد بها القاضي ميهتا بإسهاب في حكمه الذي بلغ قرابة 300 صفحة.
كما يفتح هذا الانتصار الباب أمام إمكانية إجبار جوجل على إجراء تغييرات جذرية في ممارساتها التجارية، لا سيما تلك المتعلقة بالاتفاقيات الحصرية مع شركات التكنولوجيا الأخرى والتي كانت محور القضية.
كما تتجاوز أهمية هذا الحكم حدود قضية جوجل، حيث يرسل إشارة قوية إلى الشركات التقنية العملاقة بأنها لم تَعد فوق القانون. كما أنه يعزز من فرص نجاح القضايا الأخرى التي رفعتها إدارة بايدن على الشركات التقنية، مثل الدعوى القضائية بحق آبل، والدعوى بحق شركة ميتا، التي تتهمها بأنها قضت على المنافسين الناشئين، والدعوى القضائية الأخرى بحق أمازون، التي تتهم الشركة بالضغط على البائعين في سوقها الإلكترونية.
علاوة على ذلك، لقد بات هيمنة جوجل المطلقة مهددة، إذ تتطلب محاربة دعوى مكافحة الاحتكار دائمًا المال والوقت، ولكن ما هو أهم من ذلك أنها تشتت انتباه كل من المديرين التنفيذيين والموظفين، مما قد يحد من قدرتها على الابتكار.
وهذا ما حدث من قبل مع مايكروسوفت، لقد أدت دعوى مكافحة الاحتكار البارزة التي رفعتها وزارة العدل الأمريكية في عام 1998 على مايكروسوفت إلى تشتيت انتباه الشركة وإبطاء هيمنتها على سوق الإنترنت السريع النمو آنذاك بالطريقة التي قادت بها عصر الحوسبة الشخصية بفضل نظام التشغيل ويندوز وشعبية برامج (أوفيس) Office الخاصة بها.
مما سمح لشركة جوجل الناشئة وقتها – التي تأسست في عام 1998 – بالصعود والسيطرة على هذا السوق. والآن، تتكرر هذه الديناميكية، فمع هيمنة جوجل على سوق البحث، تواجه بدورها تحديات مشابهة من شركات ناشئة تركز في الذكاء الاصطناعي، مثل: OpenAI، والمفارقة هنا أن مايكروسوفت من أكبر المستثمرين في (OpenAI).
ولكن هنا، دعنا لا ننسى أن الذكاء الاصطناعي يعتمد بشكل كبير على البيانات، والبيانات هي ما قضت جوجل ربع القرن الماضي في تجميعه، وهنا تكمن قوة جوجل الحقيقية. فبعد عقود من جمع البيانات، تمتلك الشركة الآن مخزونًا ضخمًا من البيانات التي تمنحها مزية تنافسية كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي، وهي لا تتردد في استغلال هذه المزية لتحقيق أهدافها التجارية.
رابعًا، كيف سيؤثر هذا الحكم في منافسي جوجل وحلفائها؟
يشير الخبراء إلى أن صدور حكم نهائي بحق جوجل في هذه القضية قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المنافسة في سوق البحث عبر الإنترنت، كما قد يتسبب في خسارة كبيرة لشركاء جوجل مثل سامسونج وموزيلا، حسبما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال.
إذ قد تخسر موزيلا، التي تلقت أكثر من 400 مليون دولار من جوجل في عام 2021 مقابل جعل محرك بحثها هو الخيار الافتراضي في متصفح فايرفوكس، مصدر دخل كان من المقدر في عام 2021 أن يشكل ما يصل إلى 80% من ميزانيتها التشغيلية.
وقال متحدث باسم شركة موزيلا في تصريح لموقع Arstechnica: “ندرس مِن كثب قرار المحكمة، مع الأخذ بالحسبان تأثيره المحتمل في الشركة، وكيف يمكننا التأثير بشكل إيجابي في الخطوات التالية”.
في الوقت نفسه، رفضت موزيلا التعليق على الحلول التي قد تكون مناسبة، قائلة فقط إن فايرفوكس يواصل تقديم مجموعة من خيارات البحث، ونحن ملتزمون بخدمة تفضيلات مستخدمينا مع تعزيز السوق التنافسية.
ومن المتوقع أيضًا أن يستفيد محرك البحث بينج التابع لشركة مايكروسوفت أكثر من هذا الحكم، حيث توقعت مايكروسوفت العام الماضي أن تحصل الشركة على نحو ملياري دولار من عائدات الإعلانات لكل نقطة مئوية يكتسبها بينج في حصة السوق.
ومع ذلك، فإن الشركات الأخرى مثل DuckDuckGo تحذر من عدم وجود حلول سهلة، وتؤكد الحاجة إلى حلول طويلة الأجل لتعزيز المنافسة في سوق البحث.
خامسًا، ماذا عن المستخدمين؟
ماذا يعني كل هذا بالنسبة لنا نحن الذين نستخدم منتجات جوجل كل يوم، عادةً بشكل افتراضي؟ يعتمد الأمر على إجراءات الشهر المقبل في استئناف جوجل، ولكن هناك بعض العوامل التي تشير إلى التوجه الذي قد تؤول إليه الأمور.
أولًا، إذا نجح هذا الحكم في الصمود أمام استئناف جوجل، فسوف يلغي الكثير من اتفاقيات جوجل الافتراضية مع العديد من الشركات، الأمر الذي سيفتح الباب أمام المزيد من شركات البحث الناشئة الطموحة، مثل: شركة Neeva، التي تعمل بالذكاء الاصطناعي ولم تستطع البقاء في السوق بسبب عدم قدرتها على المنافسة، والتي قد تحظى باهتمام أكبر من شركات رأس المال الاستثماري وتكتسب القدرة على إدراجها كخيارات للمستهلكين لتجربتها عندما يحصلون على جهاز جديد.
ولكن دعنا هنا، لا ننسى قوة العلامة التجارية لجوجل التي قد تجعل من الصعب على المنافسين جذب المستخدمين، حتى بعد صدور أحكام قضائية بحقها. فجوجل ليست مجرد محرك بحث، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياة الكثيرين عبر الإنترنت.
فمن المتوقع أن يظل الكثير من المستخدمين ملتصقين بمحرك بحث جوجل، فالعادة التي اكتسبوها على مر السنين قد تدفعهم للاختيار الأسهل والأسرع، حتى لو كان هناك بدائل أفضل، فمن الصعب تغيير سلوك المستخدمين، حتى لو فرضت الحكومة قيودًا جديدة على هيمنة جوجل.
في النهاية يتعين علينا أن ننتظر الاستئناف، ثم القرار، ثم الحل، وكل هذا قد يستغرق سنوات أخرى، بالإضافة إلى السنوات الأربع التي مرت منذ أن رفعت وزارة العدل قضيتها على جوجل، والتي خلالها انخفضت حصة الشركة في سوق البحث عبر الإنترنت بشكل طفيف ولكنها لا تزال تمثل أكثر من 85% من عمليات البحث في الولايات المتحدة ونحو 90% من عمليات البحث عالميًا.
وعندما تستقر الأمور، فإن الضغوط لإنهاء احتكار جوجل غير القانوني للبحث قد تنتج الكثير من الوثائق القضائية والتقارير الإخبارية والقلق، ولكن القليل من التغييرات في الممارسة الفعلية للبحث عبر شبكة الإنترنت.