دراسات وتقاريرمنوعات تقنيةنصائح تكنولوجية

هل يمكن أن يساعدنا الذكاء الاصطناعي في التواصل مع الحيوانات؟

في سبعينيات القرن الماضي، لفتت غوريلا، أُطلق عليها اسم (كوكو) Koko، أنظار العالم بفضل قدرتها على استخدام لغة الإشارة الخاصة بالبشر، إذ استطاع مدربون تعليمها لغة الإشارة الأمريكية، وكانت تتواصل مع البشر باستخدام أكثر من ألف علامة من علامات لغة الإشارة. ولكن المشككين يؤكدون أن كوكو والحيوانات الأخرى التي تتعلم مثل: الشمبانزي والدلافين لا تفهم مدلول ما تعبر عنه بالإشارات، وأن محاولة تعليم أنواع أخرى من الحيوانات لغة الإنسان هي في الواقع محاولات محكوم عليها بالفشل.

بينما يرى فريق من العلماء أنه بدلًا من محاولة معرفة كون الحيوانات تستطيع التخاطب بلغة البشر، من الأجدى أن نفهم طريقة تواصل هذه الكائنات مع بعضها.

ومن هؤلاء العلماء (كارين بيكر) Karen Bakker الباحثة في جامعة كولومبيا البريطانية في كندا والزميلة في معهد هارفارد رادكليف للدراسات المتقدمة التي تقول: “نحن بحاجة إلى فهم التواصل غير البشري وفقًا لشروطه الخاصة، لذلك يستخدم العلماء الآن أجهزة استشعار متقدمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة شفرات التخاطب بين سلسلة واسعة من الكائنات وفهمها، بما يشمل: النباتات أيضًا”.

هذا المجال من (الصوتيات الحيوية الرقمية) هو موضوع كتاب (باكر ) الجديد الذي يحمل اسم: “أصوات الحياة: كيف تقربنا التكنولوجيا الرقمية من عوالم الحيوانات والنباتات”.

تحدثت (كارين باكر ) في مقابلة مع مجلة (Scientific American) حول كيف يمكن للتكنولوجيا أن تساعد البشر في التواصل مع مخلوقات مثل: الخفافيش ونحل العسل، وكيف تجبرنا هذه المحادثات على إعادة التفكير في علاقتنا مع الأنواع الأخرى. كما سردت تاريخ محاولات البشر للتخاطب مع الحيوانات.

تقول باكر: “كانت هناك محاولات عديدة في منتصف القرن العشرين لتعليم لغة البشر لفصائل غير بشرية، خاصة فصيلة الرئيسيات، مثل: الغوريلا كوكو، ولكن هذه المحاولات كانت مدعومة بافتراض أن اللغة فريدة للبشر، وأنه إذا أردنا إثبات أن الحيوانات تمتلك لغة، فسيتعين علينا إثبات أنها تستطيع تعلم لغة الإنسان وبالعودة إلى الماضي؛ فهذه وجهة نظر تتمحور حول الإنسان تمامًا”.

ترى باكر أنه من الأفضل أن نفكر في قدرات هذه المخلوقات التي تعيش معنا على الكوكب على الانخراط في أساليب تواصل معقدة بشروطها الخاصة. وتقول: “نحن لا يمكننا أن نتوقع من نحل العسل على سبيل المثال أن يتحدث بلغة البشر، ولكن هذه الحشرات في الواقع تتخاطب بلغة مثيرة للاهتمام تعتمد على الذبذبات والتحركات والتموضع”.

وهنا يساعدنا التطور العلمي الذي أصبح  أقل تمركزًا حول الإنسان؛ إذ إن علم (الصوتيات الحيوية الرقمية) Digital Bioacoustics – وهو العلم الذي يدرس الأصوات التي تصنعها الكائنات الحية – يتطور بشكل كبير ويكشف النقاب عن نتائج رائعة حول تواصل الكائنات الحية مع بعضها.

وأضافت أن هذا النهج العلمي لا يسأل: هل يمكن أن تتحدث الحيوانات مثل البشر؟ بل يطرح سؤالًا أهم: هل تستطيع الحيوانات توصيل المعلومات المعقدة لبعضها، وكيف تفعل ذلك؟

يتخذ البحث اليوم نهجا مختلفًا جدًا، إذ يبدأ بتسجيل الأصوات التي تصدرها الحيوانات وحتى النباتات، ثم يستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في تحليل كميات هائلة من البيانات لاكتشاف الأنماط وربطها بالسلوكيات لمحاولة تحديد هل هناك معلومات معقدة تنقلها الأصوات التي تصدرها هذه الكائنات.

ما يفعله الباحثون اليوم ليس محاولة تعليم تلك الأنواع لغة بشرية، ولكن بالأحرى تجميع قواميس الإشارات والأصوات التي تصدرها تلك الأنواع، ثم محاولة فهم ما تعنيه تلك الإشارات والأصوات لهذه الأنواع.

كيف يقوم الباحثون بذلك؟

يعتمد علم الصوتيات الحيوية الرقمية على استخدام مسجلات رقمية صغيرة جدًا محمولة وخفيفة الوزن، تشبه الميكروفونات المصغرة، ويقوم العلماء بتثبيتها في مختلف الأماكن البرية من القطب الشمالي إلى غابات الأمازون، حيث يمكن تثبيتها على أصداف السلاحف أو ظهور الحيتان، ويمكن وضعها في أعماق المحيط، أو ربطها بالطيور، ويمكنها تسجيل الأصوات التي تطلقها هذه الكائنات بشكل مستمر، على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، في الأماكن النائية التي لا يمكن للعلماء الوصول إليها بسهولة.

تُسجل هذه الأجهزة كميات هائلة من البيانات، وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي، لأن خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية نفسها التي نستخدمها بهذا التأثير الكبير في أدوات مثل الترجمة يمكن أيضًا استخدامها لاكتشاف الأنماط في طرق التواصل غير البشرية.

كيف يحلل الذكاء الاصطناعي أنماط التواصل هذه؟

هل يمكن أن يساعدنا الذكاء الاصطناعي في التواصل مع الحيوانات؟

ناقشت باركر في كتابها دراسة الباحث (يوسي يوفيل) التي راقب فيها ما يقرب من عشرين فصيلة من خفافيش الفاكهة المصرية لمدة شهرين ونصف وسجل أصواتها، ثم استخدم فريقه برامج لتحليل الأصوات تستند في عملها إلى الذكاء الاصطناعي لتحليل 15 ألف مقطع صوتي وربطت الخوارزمية أصواتًا معينة بتفاعلات اجتماعية محددة اُلتقطت عبر مقاطع الفيديو، كوقت تشاجر الخفافيش على الطعام.

وفي إطار هذه الدراسة؛ استطاع الفريق البحثي تصنيف غالبية الأصوات التي تطلقها الخفافيش، وتوصل إلى أن الخفافيش تستخدم لغة حوارية أكثر تعقيدًا مما كنا نعتقده، إذ إن الخفافيش تتجادل بشأن الغذاء، وتميز بين الجنسين عندما تتواصل مع بعضها، بل ولها أسماء خاصة بها.

وتقول باركر: “إن الخفافيش الأمهات تتحدث إلى صغارها بنبرة أمومية، وفي حين أن الأمهات من البشر ترفع نبرة صوتها لإصدار التعليمات لأطفالها، فإن أمهات الخفافيش تستخدم نبرات صوتية منخفضة لتعليم صغارها مهارات معينة، مما يثير استجابة مناغمة لدى أطفالها الذين يتعلمون التحدث بكلمات محددة أو إشارات معينة أثناء نموهم، وهو ما يدل على أن الخفافيش تنخرط في عمليات التعليم الصوتي”.

وهذا مثال رائع على مدى قدرة التعلم العميق على اشتقاق هذه الأنماط من البيانات التي جُمعت من كل هذه المستشعرات والميكروفونات، وتكشف لنا شيئًا لم يكن يمكننا الوصول إليه بدونها.

نظرًا إلى أن معظم اتصالات الخفافيش تكون عبر الموجات فوق الصوتية، وهذه الموجات أعلى من نطاق السمع لدينا، كما أنها تتحدث بشكل أسرع بكثير مما نتحدث به، لذا يتعين علينا إبطاؤها للاستماع إليها، وكذلك تقليل التردد، لم يكن يمكننا بدون تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي الوصول إلى مثل هذه النتائج، في حين استطاعت هذه التقنيات أن تنتج أنماطًا محددة وتستخدم تلك الأنماط للتواصل مرة أخرى مع مستعمرة الخفافيش أو التأثير في سلوك خلية النحل، وهذا ما يفعله الباحثون الآن.

كيف يتحدث الباحثون إلى النحل؟

في فصل آخر من الكتاب، تناولت باركر دراسة باحث يُدعى (تيم لاندجراف) Tim Landgraf التي راقب فيها فيصل نحل العسل، والأساليب الحركية التي تنتهجها للتواصل في ما بينها.

وقالت إنه الآن تطورت تقنيات الذكاء الاصطناعي بفضل الرؤية الحاسوبية ومعالجة اللغة الطبيعية، لذلك تمكن الفريق من تطوير خوارزميات قادرة على تتبع نحلات بعينها، وأصبحوا قادرين على تحديد تأثير الإشارات التي تطلقها هذه النحلات في سلوكيات باقي النحل في الخلية نفسها.

وتوصل الباحثون إلى أن النحل يطلق إشارات لها دلالات مثل: توقف، وتحرك، واحترس، بالإضافة إلى إشارات أخرى أكثر تعقيدًا تعبر عن الاستغاثة وتوجيه أوامر جماعية.

كما تمكن الباحث (تيم لاندجراف) من ابتكار روبوت بحجم نحلة أطلق عليه اسم (RoboBee) وغذاه بكافة شفرات التواصل التي أمكن استخلاصها من لغة النحل، وبعد اختبار سبعة أو ثمانية نماذج أولية من هذا الروبوت، صنع نحلة روبوتية يمكنها الدخول إلى خلية النحل وتوجيه أوامر يستجيب لها أفراد الخلية.

وقد استطاعت النحلة الروبوتية إعطاء أوامر بالتوقف أو التحرك، بل إنها نفذت بعض أساليب التخاطب المعقدة بين النحل، مثل: الرقصة الدائرية التي يقوم بها النحل عادة لإرشاد باقي أفراد الخلية إلى أماكن الرحيق.

الخاتمة:

ترى باركر أن هذا النهج  العلمي والتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي يثير الكثير من التساؤلات الفلسفية والأخلاقية. إذ يمكنك أن تتخيل استخدام هذه التقنيات لحماية النحل من المخاطر عن طريق إرشاده إلى أماكن الرحيق الآمنة وليس تلك الملوثة بمستويات عالية من المبيدات.

ويمكنك أيضًا أن تتخيل استخدامها في إلحاق الضرر بالحيوانات عن طريق محاولة تدجين الأنواع البرية أو محاولة التحكم في سلوكها وهو ما يؤثر في النظام البيئي للكوكب.

كما تطرح الرؤى حول مستوى التطور ودرجة التواصل المعقد لدى غير البشر بعض التساؤلات الفلسفية المهمة جدًا كهل يتفرد البشر باللغة دون غيرهم من المخلوقات أم لا؟

زر الذهاب إلى الأعلى