دراسات وتقارير

هل من الصواب منع التعليقات في مواقع الإنترنت؟

إعداد: غادة محمد

في سنواته الأولى، توقع كثيرون أن يُمثل الإنترنت ساحةً مفتوحة للنقاش الحر وتبادل الآراء والأفكار، بما يتجاوز كثيراً من الحدود الجغرافية والاقتصادية والثقافية والفكرية التي تفصل بين الناس، وانتظر البعض أن تكون المساحة المتاحة للتعقيبات أو التعليقات ضمن أغلب المواقع والمدونات نموذجاً مثالياً على هذه الفكرة.

ومن الناحية النظرية على الأقل، تتيح التعليقات لأي شخص أن يكتب ما يشاء، ويشارك برأيه حول المواد المنشورة، ويطَّلع على آراء غيره من القراء، بدلاً من عناء كتابة رسالة بواسطة البريد العادي أو الإلكتروني إلى المحرر، وفي النهاية لا يطلع عليها سواه أو الفريق المسؤول عن التحرير، وفي المقابل تُسهِم التعليقات في إثراء المحتوى المنشور، وتصحيح الأخطاء وإضافة أبعاد ومصادر جديدة إلى الكُتاب، وفي النهاية يعود بالفائدة على الموقع ومجتمع القراء.

لكن هذه الصورة الوردية المتفائلة تبدو بعيدة بعض الشيء عن الواقع القائم، الذي يُشير إلى أن تعليقات القراء تُشكل بدرجات متفاوتة أزمة دائمة لكثيرٍ من مواقع ومدونات الإنترنت باختلاف تخصصاتها ونطاق عملها، سواءً تناولت القضايا السياسية أو الرياضية، وحتى الشؤون العلمية والتقنية، وأخبار الفن والمشاهير.

وفي بعض الأحيان تتجاوز التعقيبات مناقشة محتوى المقال إلى أمور بعيدة تماماً، كالخلاف مع القراء الآخرين، أو الهجوم على الكاتب والموقع لسببٍ أو لآخر، والأسوأ هو استخدام البعض لخطاب يتسم بالكراهية والعنف اللفظي والتعصب لجنس أو طائفة، بجانب الخطاب الفظ الذي يؤثر على بقية القراء؛ بحيث يتبنى بعضهم الخطاب نفسه، أو يحول بينهم وبين تكوين رأي هادئ حول فكرة المقال أو الخبر.

وتتبنى مواقع الإنترنت أساليباً مختلفة في علاجها لمشكلة التعليقات؛ فخصص بعضها محررين لمراجعتها وحذف التعليقات المسيئة وغير الملائمة، وإبراز أفضلها في النسخ المطبوعة أو ضمن نص المقال، والبعض استعان بالقراء أنفسهم لتقييم التعليقات بالإيجاب أو السلب والإبلاغ عن التعليقات المسيئة أو البعيدة عن لب الموضوع، ومزج بعضها بين الحلين. كما قصرت بعض مواقع الإنترنت التعليق على القراء المسجلين باسمهم وبريدهم الإلكتروني، والبعض اشترط استخدام حسابات الشبكات الاجتماعية مثل “فيسبوك” باعتبار أن التعليق بالهوية الحقيقة قد يدفع القراء لاختيار لغة مهذبة بعض الشيء في شرح آرائهم.

ولجأ بعض الكتاب والمدونين ومواقع الإنترنت إلى حلٍ جذري بمنع تعقيبات القراء على بعض المقالات، أو منعها في الموقع بأكمله، ربما أحدثهم مجلة “بوبيلار ساينس” العلمية الأمريكية التي كتبت في الرابع والعشرين من سبتمبر الماضي في موقعها الإنترنت تعلن عن إغلاق الباب أمام تعقيبات القراء على المقالات والقصص الإخبارية الجديدة.

“نفعل ذلك لأجل العلم”

برر موقع “بوبيلار ساينس” في بيانٍ كتبته سوزان لاباري مديرة محتوى المجلة على الإنترنت، القرار بالقول بدايةً: “التعقيبات يمكن أن تضر بالعلم”، وكان العلم أيضاً هو الكلمة الأخيرة في البيان: “لا نفعل ذلك لأجلنا. نفعل ذلك من أجل العلم”، الأمر الذي يعني أن المبرر الأول هو عدم ملائمة التعليقات لمحتوى المجلة الذي يُركز على العلوم والتقنية.

ورأى البيان أن التعقيبات غير الملائمة ومحاولات التصيد وبرامج التطفل تضر بقدرة المجلة على أداء رسالتها في تعزيز النقاش الحيوي والفكري ونشر العلم، كما أشار البيان إلى أن تأثر القراء بالتعليقات الأخرى يُسهِم في تكوين الرأي العام، الذي يشكل السياسة العامة، وهذه الأخيرة تُحدد أي الأبحاث ستحظى بالدعم المالي، وهو ما قد ينتهي بالحيلولة دون إنجاز بعض البحوث العلمية المهمة بسبب ضغوط سياسية.

واعتبرت لاباري أن الحقائق العلمية تختلف عن الموضوعات العادية التي يتجادل بشأنها الأشخاص في وسائل الإعلام: “الحقيقة العلمية هي شيء آخر غير ما يتجادل حوله شخصان على شاشات التلفزيون”، وتابعت أن أقسام التعقيبات في مواقع الإنترنت تعكس بشكل غريب ما وصفته بثقافة وسائل الإعلام المنتشرة، وهو ما يُسهِم في تقويض أسس المذهب العلمي تحت مظلة القصص المنشورة في “بوبيلار ساينس”، وهو موقع مكرس في الأصل لنصرة العلم.

هل نتأثر فعلاً بتعليقات القراء الآخرين؟

أشار بيان المجلة إلى بعض الدراسات العلمية التي استنتجت تأثر القراء باللهجة المستخدمة في تعليقات الآخرين، كما يؤثر على استيعابهم لمحتوى المواد المنشورة. ومن بينها دراسة أجراها باحثون من جامعة “ويسكونسن ماديسون” الأمريكية، رأت أن التعليقات ذات اللهجة العدوانية لا تؤدي فقط إلى استقطاب القراء إلى أحد الآراء، لكن الأخطر هو تأثيرها سلباً على تفسيرهم لمحتوى القصة الخبرية، وهو ما يبدو خطيراً مع لجوء كثيرين إلى شبكة الإنترنت كمصدر للمعلومات، وتكوين الآراء حول مختلف القضايا.

واختبرت الدراسة، التي نُشرت في شهر فبراير الماضي، مدى تأثر القراء بلهجة التعقيبات وكيفية تأثيرها على آرائهم وفهمهم للمادة المنشورة. وشارك فيها 1183 متطوعاً، طُلب منهم قراءة مقال في مدونة مُزيفة، يتناول على نحوٍ متوازن منافع ومضار منتج تقني جديد يُسمى “نانوسيلفر”، وتضمن فوائد مثل مقاومة المنتج للجراثيم، وعلى الجانب الآخر أشار إلى بعض الآثار السلبية كتسببه في التلوث، وبعدها أبدى المشاركون رأيهم في المنتج.

وكانت المرحلة التالية قراءة التعليقات التي تنوعت بين الآراء المؤيدة والمعارضة، لكن اختلف أسلوب كتابتها؛ وطُلب من نصف المشاركين قراءة تعليقات مهذبة، في حين قرأ النصف الآخر تعليقات استخدمت لغة فظة وعدوانية، واحتوت على بعض مفردات السباب والشتائم، وتضمنت جملاً مثل: “إذا كنت لا تدرك منافع استخدام تقنية النانو في هذه النوعية من المنتتجات، فأنت أحمق”، و”أنت غبي إذا لم تكن تفكر في مخاطر المياه الملوثة بالفضة على الأسماك والحيوانات والنباتات”.

ودفعت هذه النوعية الفظة من التعليقات القراء إلى تبني رأي أكثر تشدداً فيما يتعلق بالمخاطر المتصلة بهذه التقنية، وهو ما يعني أن تعرض القراء لتعقيبات لا تستند إلى حكم منطقي جعل المشاركين يعتقدون أكثر في الجانب السلبي لهذه التقنية، في حين احتفظ المشاركون من المجموعة الأولى بآرائهم المؤيدة أو المعارضة.

كما انتهت دراسة حديثة شارك فيها باحثون من “معهد ماساتشوستس للتقنية”، إلى تأثر العديد من مستخدمي مواقع الإنترنت بتقييم التعليقات المنشورة على الأخبار، بحيث يميلون إلى اتخاذ تصرف مماثل، وإعطاء التعليق تقييماً إيجابياً، بما يُسهِم في منح بعض التعليقات والمواد تقييماً يفوق قيمتها الحقيقية.

هل تصلح الحلول الأخرى؟

كل هذا لا يعني بالطبع أن جميع مواقع الصحف أو المواقع المتخصصة ينبغي أن تتبنى الخيار ذاته الذي اتخذته “بوبيلار ساينس”، بل لازالت تواصل البحث عن صيغٍ جديدةٍ تحافظ على تفاعل القراء، وتُقصي التعليقات المسيئة، والكلمات البذيئة، والآراء التي تحمل صبغة التمييز العرقي والجنسي، وكذلك محاولات الترويج التجاري لمنتجات بعينها، وهي العناصر التي تتفق على منعها أغلب، إن لم يكن جميع، الخطوط الإرشادية للتعليقات التي تعتمدها مواقع الإنترنت.

ومن بينها، على سبيل المثال، موقع صحيفة “ذا نيويورك تايمز” الأمريكية الذي يشترط على القراء التسجيل في الموقع بالاسم والبريد الإلكتروني مع اختيار اسم واحد يظهر في جميع مشاركاتهم عبر الموقع، بما يضمن قبول القارئ للشروط والأحكام المحددة، كما تعتمد الصحيفة على نظام لمراجعة التعليقات قبل النشر، فيُقرر المحرر المسؤول ما إذا كانت ستُنشر أم تُرفض خلال أربع وعشرين ساعة، وتتيح للقراء الاستفسار عن تعليقاتهم التي يتأخر نشرها، بالإضافة إلى إمكانية إبلاغ القراء عن التعليقات المسيئة.

وتُعفي الصحيفة الأمريكية من تسميهم “القراء الموثقين” من عملية المراجعة تلك، وتنشر تعقيباتهم مباشرةً، كما تختار مجموعات من التعقليات الجيدة التي تعكس آراءً متنوعة، أو كتبها أشخاص على صلة وثيقة بموضوع المقالات لإبرازها ونشرها ضمن المقال، وحينها فقط يكون للصحيفة الحق في تصويب الأخطاء الإملائية والنحوية وعلامات الترقيم.

أيضاً تحظر بعض المواقع الإخبارية وغيرها التعليقات مجهولة المصدر، من بينها مواقع مؤسسة “هافينجتون بوست” التي أعلنت ذلك في أغسطس الماضي، وعبرت حينها رئيسة تحرير الموقع أريانا هافينجتون عن رأيها بأن حرية التعبير تخص أولئك الأشخاص الذين يدافعون بوضوح عما يقولون، ولا يتخفون وراء هويات مجهولة.

ومؤخراً  كشف موقع “يوتيوب” لنشر مقاطع الفيديو عن سياسة جديدة للتعليقات، منحت لناشري الفيديو وأصحاب القنوات مزيداً من التحكم في التعليقات التي تتناول ما ينشرونه، بحيث يمكنهم حظر كلمات معينة من الظهور، أو مستخدمين آخرين من التعليق لديهم.

وسيُبرز نظام التعليق الجديد في “يوتيوب” لكل مستخدم التعليقات التي كتبها أصدقاؤه ضمن الشبكة الاجتماعية “جوجل بلس”، وكذلك تعليقات ناشر الفيديو وبعض المستخدمين ذوي الشعبية في البداية، ثم بقية التعليقات، ويأتي ذلك ضمن سعي شركة “جوجل” لحث المستخدمين على التعليق بالاسم ذاته ضمن خدماتها المختلفة، بالإضافة للإبقاء على تقييم التعليقات سلباً وإيجاباً.

وحتى موقع مجلة “بوبيلار ساينس”، التي صدرت للمرة الأولى في أبريل من عام 1872، لا يرغب بالطبع في قطع الصلة مع القراء، فيعتزم إتاحة التعقيبات للقراء على موضوعات مختارة تصلح للنقاش، وأشار بيان المجلة إلى توافر وسائل عديدة للتواصل كالبريد الإلكتروني، والمحادثات الحية، ومواقع الشبكات الاجتماعية مثل “تويتر”، و”فيسبوك”، و”جوجل بلس”.

أصوات لا يمكن ولا ينبغي إسكاتها

وربما ما يمكن الاتفاق عليه، أن بعض تعقيبات القراء تُثري النقاش ومحتوى المقالات المنشورة بالفعل وتمثل امتداداً لها، والبعض الآخر يصبح نوعاً من الضجيج والجدال بلا طائل لدرجة قد يضر معها بالمحتوى الأصلي، مع الأخذ في الاعتبار أن المحتوى الجيد غالباً ما يجلب تعقيبات جيدة.

وفي جميع الأحوال لن تتوقف التعليقات؛ فمن ناحية تُعد المشاركة وتفاعل القراء السبب الأول في جعل الإنترنت بالصورة الحالية، ومن ناحية أخرى تعتبر الشبكات الاجتماعية التي يقضي معها ملايين المستخدمين ساعات طويلة ساحة صاخبة للنقاش والجدال لا يمكن ولاينبغي إسكاتها، ربما باعتبارها جزءاً من الطبيعة البشرية تصاحبنا في نقاشات الواقع والإنترنت على حدٍ سواء.

ويبقى الحل الممكن أمام الناشرين والمدونين البحث عن أفضل السبل التي تُبقي على تفاعل القراء مثل إتاحة البحث في التعليقات، والاستفادة منها باعتماد طرق تقنية لتحليلها من ناحية المحتوى والجانب النفسي، وربما مع الوقت واتساع نطاق المشاركة في مواقع الإعلام الاجتماعي، تنشأ أعراف وآداب جديدة للتعقيبات، ويتوقف البعض عن استخدام اللهجة العدوانية ليتحقق النقاش البناء الذي يُثري محتوى الإنترنت بالفعل كما يأمل الجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى