مواقع التواصل الاجتماعي أفضل وأرخص وسيلة استخباراتية لمراقبة الشعوب
بقلم: د. فيصل القاسم
أصبح لإنسان هذا العصر، لأول مرة في التاريخ، عنوانا إقامة بدل عنوان واحد: عنوان إقامته السكنية، وعنوان إقامته الإلكترونية. وبإمكانك أن تزوره وتتفاعل معه على العنوانين بعد أن أصبح العنوان الإلكتروني أكثر تعبيراً بكثير عن صاحبه من العنوان المنزلي، فما تراه في بيت أي إنسان أصبح متاحاً على صفحاته في مواقع التواصل. لا بل إن عنوان إقامة الإنسان الإلكترونية أصبح أكثر شفافية وكشفاً لمكنوناته وأعماقه وتوجهاته وأفكاره مما قد يُفصح عنه مكان إقامته السكني، فالصور والفيديوهات والكليبات والخواطر والكتابات والتعليقات والاقتباسات و “الشيرات” و “الللايكات” والاهتمامات التي يعرضها ويبديها الإنسان على مواقع التواصل لا يمكن أن تراها أو تكتشفها أبداً عندما تزوره في بيته، فمهما اطلعت على مكان الإقامة لن تحصل منه على معلومات عن صاحب البيت كما تحصل عندما تتابعه على مواقع التواصل الاجتماعي كـ”تويتر” و “فيسبوك” و “يوتيوب” و “كيك”و”لينكد” وغيرها الكثير.
لقد كانت أجهزة الاستخبارات والأمن في العالم تنفق المليارات على مراقبة الشعوب وتحركاتها وتوجهاتها وأفكارها وآرائها لكي تضع السياسات المناسبة لقيادتها وتوجيهها وأدلجتها وتأطيرها. فوكالة الأمن الوطني الأمريكية مثلاً تحظى بميزانية مهولة لمراقبة المجتمع الأمريكي. وكذلك مثيلاتها في الدول الغربية، ناهيك عن وكالات الاستخبارات الخارجية، وعلى رأسها وكالة الاستخبارات الأمريكية “السي آي أي” التي تنفق سنوياً مبالغ خيالية لمراقبة نشاطات المجتمعات الأخرى. وحدث ولا حرج عما تنفقه وكالات التجسس على المكالمات الهاتفية لتسجيل ملايين المكالمات يومياً في كل أصقاع العالم.
حتى الدول “الديمقراطية” ليست حرة بالشكل الذي تتفاخر به، فهي دول بوليسية كالديكتاتوريات، لكن بأساليب أكثر ذكاء وخبثاً. فلا ننسى الكتاب الشهير بعنوان “بروبوغاندا” (1922) لصاحبه الأمريكي إيدوارد بيرنيز الذي يتحدث فيه عن الحكومة الخفية التي توجه الشعوب والمجتمعات، وتؤطرها، وتقودها في اتجاه يخدم مصالح الحكومات بالدرجة الأولى. بعبارة أخرى فإن الديمقراطيات المزعومة هي من تصيغ حتى أذواق شعوبها في المأكل والملبس والمظهر، فما بالك في السياسة والاجتماع، حسبما يكشف كتاب بيرنيز الشهير الذي كان يعتبره أدولف هتلر كتابه المفضل بعد كتاب “سيكولوجية الجماهير” لغوستاف لوبون. بعبارة أخرى، فإنه حتى أجهزة استخبارات الديمقراطيات كانت، ومازالت تخصص جل وقتها والكثير من ميزانياتها لمراقبة تصرفات وتوجهات وتحركات شعوبها وإيجاد الطرق الناجعة لضبطها وتسييرها في الاتجاه المطلوب، وتشكيل الرأي العام الذي يخدم الدول.
لقد وفرت مواقع وأجهزة التواصل الإلكترونية والرقمية على أجهزة الاستخبارات والحكومات في العالم مليارات الدولارات سنوياً بعد أن أصبحت تلك المواقع والأجهزة نفسها أفضل وأرخص وسيلة لمراقبة تحركات الشعوب والمجتمعات وتوجهاتها. ومن الجدير بالذكر أن كل مواقع التواصل وأجهزة الاتصالات الحديثة تحتفظ بسجلات المستخدمين على كومبيوترات عملاقة، لا بل إن بعضها يعلن صراحة بأنه يبيع تلك السجلات لمن يرغب، بمن فيها وكالات الاستخبارات طبعاً، ناهيك عن أن تلك الوكالات تستطيع مراقبة مواقع التواصل وتسجيل حركتها فوراً ومن دون العودة إلى سجلات المواقع نفسها.
صحيح أن مواقع وبرامج التواصل والاتصالات تقدم خدمة الاتصال المجانية، لكنها في الآن ذاته تراقب كل الاتصالات والتفاعلات التي تتم عبرها، وتقوم بتسجيلها فيما يسمى بالشبكات العميقة لأغراض حكومية وأمنية وبحثية وتجسسية. وقد كشفت بعض الدراسات أن بعض أجهزة الموبايل تقوم يومياً بتصوير صاحبها دون أن يدري، ناهيك عن أنها تسرق أرقام هواتفه بطريقة شرعية وبموافقته، مما يوفر لأجهزة الاستخبارات كنوزاً رهيبة من المعلومات. لا عجب أن صاحب موقع “ويكيليكس” جوليان أسانج وصف مواقع التواصل الاجتماعية بأنها أكبر شبكة تجسس عرفها التاريخ لصالح وكالات الاستخبارات العالمية، فهي تعتبر أكثر وسيلة يمكنها توفير معلومات وبيانات عن الأشخاص. واعتبر أسانج أن كل مستخدمي مواقع التواصل يقدمون بيانات مجانية لوكالة الاستخبارات، وأن تلك المواقع ما هي إلا واجهات لهذه الوكالة الاستخباراتية أو تلك. وقد كشف أحد التقارير أن “مكتب التحقيقات الفيدرالية” الأمريكي “إف بي آي” يقوم بالاطلاع على كل ما يرد دورياً من أخبار وآراء وتوجهات على شبكات التواصل الاجتماعي، بحيث يتم جمع البيانات والمعلومات المجانية التي يقدمها الناس عن حالهم طوعياً وتحليلها.
لم تعد أجهزة الأمن والاستخبارات في العالم بحاجة لزيارة الناس في بيوتهم كي تتعرف عليهم وتراقبهم. ولم تعد بحاجة لأن تسأل الآخرين عنهم، إذ يكفي فقط أن تتصفح صفحاتهم الاجتماعية الإلكترونية لتحصل على ما تريد وأكثر. لقد كان المحققون في الماضي يمضون وقتاً طويلاً لسبر أغوار هذه القضية أو ذاك الشخص. أما الآن فالناس تقدم كل ما يجول بخاطرها بكل طواعية لمواقع التواصل. أتحدى أكبر محقق أو ضابط أمن في العالم يستطيع استنطاق الناس مثلما تستنطقهم مواقع التواصل، وتجعلهم يُخرجون كل ما في بالهم بكل أريحية ودون أي ضغوط. لقد كان المحققون العرب يلجأون إلى أبشع أساليب التعذيب لاستنطاق الناس، بينما يسألك “فيسبوك” و “تويتر” بكل تهذيب: ماذا يدور في ذهنك الآن، فتبوح بكل ما عندك عن طيب خاطر وحرية.
هل جاءت مواقع التواصل الاجتماعي لأغراض أمنية وحكومية قبل أن تكون اجتماعية؟ لو قرأنا كتاب “بروبوغاندا” من جديد سنجد أن الغرض الأول ربما يكون أقرب إلى الحقيقة.
نقلاً عن بوابة الشرق