الأخبار التقنية

واقع الصحافة العربية ومستقبلها

التقارير المتواترة عن السباق بين الصحافتين الورقية والالكترونية، ما زالت تشد الاهتمام، وذلك في ضوء الأزمة التي تعانيها مؤسسات صحافية كبيرة في الغرب، ومن آخر فصولها التهديد المالي بإغلاق صحيفة “الإندبيندنت” البريطانية . مع العلم أن صناعة نشر الكتب الورقية لا تعاني من الأزمة نفسها .

في جانب منه فإن الجدل الذي يثور في العالم العربي وهو ما يعنينا في هذا المقام، يتعلق بالترويج للصحافة الالكترونية كصناعة بديلة . فلم يتم حتى تاريخه احتجاب صحف عربية كبيرة تحت ضغط المنافسة الالكترونية . وما زال المعلنون يقبلون على الترويج للسلع والخدمات في الصحافة الورقية، وذلك من دون إنكار أن الصحف الورقية قد تأثرت بتقدم التكنولوجيا وزيادة استخدامها في المكاتب والمنازل . من مظاهر التأثر عكوف المطبوعات الورقية على الانشغال بالشؤون المحلية في بلدانها، والتخفف من التوزيع خارج الحدود، ذلك أن القراء خارج الحدود، يُقبلون على المواقع الالكترونية لهذه المطبوعات دونما انتظار لوصول نسخها الى بلدانهم . وذلك شكل من أشكال التكيف مع المستجدات، التي تشمل خدمة الإذاعات والقنوات التلفزيونية الإخبارية ورسائل الهاتف المحمول .

وإذ تنتشر المواقع الالكترونية الإخبارية بسرعة هنا وهناك، في الدول التي تتيح انتشار هذا النمط بأقل قيود أو ضوابط ممكنة، فإن غالبية هذه المواقع وأمام ضآلة كلفة إنشائها، قد فتحت أمام هواة وباحثين عن “البزنس” السهل، ونجم عن ذلك بالضرورة ضعف في صدقيتها المهنية، وهو ما يسجل مكسباً للصحافة الورقية التي تظل بحكم الإرث والتقاليد المهنية تتمتع في غالبيتها على الأقل بحد أدنى من الصدقية . وعلى سبيل المثال فإن النسخة الالكترونية للصحف الورقية تتمتع بقدر يقل أو يزيد من الاحترام العام، ولنتخيل ماذا يكون عليه الانطباع لو أن العديد من منابر الكترونية جازفت وأصدرت نسخاً ورقية من مطبوعاتها، حيث يقرأ القارىء بتمهل وتركيز، لا بالسرعة التي يتم فيها تصفح مواقع الالكترونية .

هناك حاجة بالتأكيد للاعتراف بالمتغيرات: مواكبتها والإفادة منها، غير أن التوقعات المتعجلة لا تفيد ولا تعكس الواقع بأمانة . فما زالت المواقع الالكترونية للمطبوعات الورقية تحظى بأكبر قدر من الإقبال، خلافاً للمواقع الالكترونية الخالصة، التي لا رديف ورقياً لها . وتعتبر هذه المطبوعات مصدراً أساسياً للأخبار والمعلومات والتحليلات، بخلاف المواقع الالكترونية التي يختلط فيها الحابل بالنابل . فالمسألة في النهاية ترتبط بجودة المنتج وموثوقيته، وليس بمجرد الإصدار .

ولئن كانت الكثير من المواقع حققت بحكم ظروف عملها، قدراً من توسيع هامش الحرية والتوسع في تداول المعلومات، فإنها في الوقت ذاته تحولت الى ما يشبه “هايدبارك” بخصائص محلية لكل بلد ومجتمع، ومن المفهوم أن مثل هذه المتنفسات على ما تكتسبه من جاذبية، فإنها لا تمتلك ما يكفي من صدقية .

الأمر هنا أشبه بمناقشات برلمانية مفتوحة تحددها ضوابط ومعايير، وهذا هو حال الصحافة الورقية خاصة المتطورة منها، التي تتمتع بهامش معقول من الحرية . . وبمداولات أخرى تتم ارتجالاً في الهواء الطلق، ينبري لها كل هاوٍ وكل راغب في العثور على من يسمعه سواء كان لديه ما يقوله أم لا، يضيف جديداً أم يكرر المعلوم، ولا رهان لديه سوى على حضوره الشخصي، وعلى إشباع الرغبة في البوح أمام جمهور فضولي، لا يأبه بمنح دقائق لسماع مجهول سرعان ما ينساه، وهذا هو حال منابر الكترونية تُزين نشر ما هب ودب، على أنه من قبيل التمكين من حرية التعبير .

وهكذا مقابل مواقع الكترونية إخبارية ذات شأن، تُعد على أصابع اليد الواحدة في العالم العربي، فإن هناك عشرات من الصحف والمطبوعات الورقية، ما زالت تُحرز نجاحاً وتسهم في صناعة الرأي العام، وتحوز على النسبة الأعلى من حجم الإعلان،وحتى المطبوعات الإعلانية الخالصة فما زالت ورقية وستظل كذلك الى إشعار آخر، رغم أن بوسع معلنين اللجوء الى البريد الالكتروني الجماعي والمجاني لبث إعلاناتهم، غير أن المسألة تتعلق بالصدقية وطريقة الاستقبال، التي ما زالت لصالح المطبوعات الورقية ومحطات التلفزة .

والراجح بعدئذ أن ظروفنا في العالم العربي، تتمايز عما هو قائم في الغرب .فالإنترنت أقل انتشاراً عندنا . والكلفة التشغيلية للصحف الورقية، أقل مما هي عليه في الغرب .كذلك الأمر مع سعر النسخة الواحدة للمطبوعة، ومع أسعار الإعلان فيها .

لهذه العوامل مجتمعة، فما زالت هناك فرص واسعة لبقاء وازدهار المطبوعات الورقية، وباستخدامها الرديف الإلكتروني لها وما يتصل بذلك من خدمات . والمسارعة للزعم بأن نجمها قد أفل، يجافي واقع الأمور .والرهان هو على مدى ونجاعة التفاعل مع معطيات الثورة التكنولوجية، وليس على تخيل انقراض نمط عريق، لصالح نمط مستحدث ما زالت جذوره في الهواء .

وكما أن التلفزيون لم يهزم السينما في الغرب، لأن الصناعة السينمائية عريقة فيه، وكما أن النشر الالكتروني لم يضع حداً لصناعة نشر الكتاب الورقي، لأن هذه الصناعة عريقة تحف بها تقاليد ونمط حياة كامل، كذلك في عالمنا العربي . . فما زال للخبر والمقال المنشور في صحيفة، وقعٌ لا يدانيه ما يستجد من نشر الكتروني، متاح لمن هو مؤهل وموهوب موثوق كما لغيرهم ممن لا حصر لهم من الهواة .

نقلاً عن صحيفة دار الخليج

زر الذهاب إلى الأعلى